كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل إن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وجماعة من الأنصار قالوا أفتنا يا رسول اللّه في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للمال والعقل فنزلت آية البقرة.
وقد بينا الآيات النّازلة في الخمر على الترتيب آنفا وإن الإسلام عند نزول آية النّحل شربوها حلالا في مكة إذ ليس فيها ما يدل على التحريم إلّا ما يفهم من عدم وصفها بالحسن وخلاف الحسن مكروه، والمكروه يتساهل فيه النّاس.
وجاء في فقه الشّافعي رحمه اللّه: وفاعل المكروه لم يعذب.
ثم لما أنزلت آية البقرة في المدينة تركها أناس كثير نفوسهم طاهرة عرفوا منها مغزى وصف الإثم بالكبر، فانتهوا من تلقاء أنفسهم، وتسامح الغير فلم يقتفوا لما يتقفى ولم ينتبهوا لما انتبه له أولئك الكرام، فداوموا على شربها، ثم لما نزلت آية النّساء حين أولم عبد الرّحمن بن عوف لجماعة من أصحابه وسقاهم، فقاموا إلى الصلاة فقرأ أحدهم (أعبد ما تعبدون) حرّم اللّه السّكر في الصّلاة فقط، فصاروا بشربونها بعد العشاء والفجر لبعد المدة بين الصّلاتين بحيث يزول أثر السّكر، ثم لما أولم عتبة بن مالك لجماعة من المسلمين منهم سعد بن أبي وقاص وسوى لهم رأس بعير وبعد ان أكلوا وشربوا ووقع بينهم ما وقع كما مر آنفا أنزل اللّه هذه الآية التي نحن بصددها، فكانت الحاسمة لتعاطي شرب الخمر واللّعب بالقمار، وكان نزولها بعد وقعة الأحزاب.
وعلى صحة هذا فتكون هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها كبعض الآيات المار ذكرها ويروى أن حمزة بن عبد المطلب شرب ورأى أنصاريا بيده ناضح ويتمثل في هذين البيتين من نظم كعب بن مالك:
بلغنا مع الأبواء نصرا وهجرة ** فلم ير حيّ مثلنا في المعاشر

فأحياؤنا من خير أحياء من مضى ** وأمواتنا من خير أهل المقابر

فقال له حمزة أولئك المهاجرون، فقال الأنصاري بل نحن (وذلك أن الأنصار أول من آمن منهم بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم اثنان وسبعون رجلا وامرأتان، وهم الّذين بنوا الإسلام بالمدينة وصاروا مأوى للمهاجرين من أهل مكة، وساووهم بمالهم ومسكنهم وتخلوا لهم عن بعض نسائهم كما ألمعنا إليه في الآية 103 من آل عمران المارة لهذا قال ما قال) فتنازعا فجرّد حمزة سيفه، فهرب الأنصاري، فضرب ناضحه (القرب التي تنضح الماء فيترشح منها مقطعه) فشكاه الأنصاري إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال عمر مقالته المنوه بها آنفا، فنزلت هذه الآية، وقد يستبعد صحة هذه الرّواية، لأن حمزة رضي اللّه عنه قتل في حادثه أحد قبل نزول هذه الآية، وعند فرض صحتها تنطبق على آية البقرة لا على هذه، لأن سورة البقرة من أول القرآن نزولا في المدينة، وسورة المائدة هذه من آخر نزوله، إذ لم ينزل بعدها إلّا التوبة والنّصر، وقد أشرنا في المقدمة إلى حكمة ترتيب هذا التحريم من اللّه تعالى جلت قدرته، ليعلم النّاس أن أوائل هذه الأمة قد الفوا شربها وكثرة انتفاعهم يبيعها وشرائها فلم يمنعهم من تعاطيها دفعة واحدة لعظم الثقل على النّفوس إذ ذاك، وأن التدريج في الأحكام هو أحد أسس التشريع الإسلامي الثلاث ألمعنا إليها في المقدمة أيضا، ولهذا ذكرنا أن النّسخ الذي تغالى به بعض علماء النّاسخ والمنسوخ ومشى عليه بعض المفسرين في هذه الآيات وشبهها هو عبارة عن التقييد والتخصيص ونفي الملزوم في المعنى كما هو في الآية الثالثة ليس إلا، تدبر.
روى البخاري ومسلم عن أنس قال ما كان لنا خمر غير فضيحتكم، وإني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب وفلانا وفلانا، إذ جاء رجل فقال حرمت الخمرة، فقالوا أهرق هذه القلال يا أنس فما سألوا عنها، ولا راجعوها، ولا تأخروا عن تركها وإهراق أوانيها لحظة واحدة بعد خبر هذا الرّجل، فانظروا رحمكم اللّه إلى هذا الإيمان الكامل وهذه الطّاعة والانقياد لأمر اللّه كيف هي، فهل من مزدجر، فهل من متعظ.
وقيل في ذمها:
خذوا كأسها عني فما أنا شارب ** ولا أنا عن ديني ودنياي راغب

لقد حرم اللّه المدام وانني ** إلى اللّه مما تستحلّون تائب

أأشرب سما ناقعا في زجاجة ** تحوم حوالي شاربيها المصائب

لئن شبهوا كاساتها بكواكب ** فقد أنذرتنا في النّحوس الكواكب

وان عصروها من خدود كواعب ** فكم من رزايا جرهن الكواكب

وقال يزيد بن محمد المهلبي في ذمها:
لعمرك ما يخفى على الكأس شرها ** وإن كان فيها لذة ورضاء

مرارا تريك الغي رشدا وتارة ** تخيل أن المحسنين أساءوا

وان الصّديق الماحض النّصح مبغض ** وان مديح المادحين هجاء

وجرّبت اخوان النّبيذ فقاما ** يدوم لاخوان النّبيذ إخاء

وكيف يدوم والجامع بينهما معصية اللّه، والاخوة لا تكون دائمة ونافعة إلا إذا كانت على تقوى اللّه.
راجع الآية 67 من سورة الزخرف في ج 2.
والحاصل أن ما حرم من الشّراب هو أول الخراب ومفتاح الشّر لكل باب، يمحق الأموال ويهرم الرّجال، ويذهب الجمال، ويهدم المروءة، ويوهن القوة، ويمحي الشّهامة فيضع الشّريف، ويهين الظّريف، ويذلّ العزيز، ويفلس التجار، ويهتك الأستار، ويورث العار والشّنار، فالسعيد من اجتنبه، والشّقي من ألفه، والهالك من اعتاده وتوغل فيه.
الحكم الشّرعي أجمعت الأمة على التقيد بأمر اللّه القاضي بتحريمها وحدّ شاربها وتفسيقه، وإكفار مستحلها، ووجوب قتله حدا.
قال ابن وهبان في منظومته:
وفي عصرنا فاختير حد وأوقعوا ** طلاقا لمن من مسكر الحب يسكر

وعن كلهم يروى وأفتى محمد ** بتحريم ما قد قلّ وهو المحرر

وروي عن جابر أن رجلا قدم من جيشان- وجيشان من اليمن- فسأل النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر، فقال صلّى اللّه عليه وسلم أو مسكر هو؟ قال نعم، قال صلّى اللّه عليه وسلم كلّ مسكر حرام وإن على اللّه عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال.
قالوا وما طينة الخبال يا رسول اللّه؟ قال عرق أهل النّار أو عصارة أهل النّار.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال كلّ مسكر خمر، وكلّ مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدّنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها لم يشربها في الآخرة، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
والحكمة في تحريم الخمر والميسر ما بيناه آنفا لأنهما من الآفات التي تسبب أضرارا مادية ومعنوية، فتوجد الخصومات والأحقاد بين النّاس، وتفقد العدالة والثقة في المعاملات، وينشأ منها شقاء العامة.
ولقاعدة الشّرعية إذا تعارض دفع الضّرر وجلب النّفع قدم دفع الضّرر على جلب النّفع.
والخمرة المحرمة التي يكفر مستحلها هي المنصوص عليها في القرآن الحاصلة من عصير العنب فقط على رأي أبي حنيفة رحمه اللّه.
وإن كلّ مسكر من غيره لا يسمى خمرا ولا يكفر مستحله إلّا أنه حرام إذا أسكر، مستدلا بقوله صلّى اللّه عليه وسلم كلّ شراب أسكر فهو حرام، ولأن علّة التحريم هو ما جاء في الآية المفسرة هذه (إنما يريد الشّيطان إلخ، وذهب مالك والشّافعي وأحمد إلى أن كلّ مسكر من عصير العنب أو غيره كله حرام لقوله صلّى اللّه عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام، ولما قدمنا من الأحاديث الأخر، وشمّلوا الميسر في كلّ الألعاب من نرد وغيره لقوله صلّى اللّه عليه وسلم من لعب بالنرد فقد عصى اللّه ورسوله.
والمراهنة من القمار أيضا لما روي عن قتادة عن حلاس أن رجلا قال لآخر إذا أكلت كذا وكذا بيضة فلك كذا وكذا فارتفعا إلى علي كرم اللّه وجهه فقال هذا قمار، أما الرّهان في السّباق بين الخيل والإبل وغيرها فجائز إذا كان الذي يستحق الجائزة السّابق فقط لقوله صلّى اللّه عليه وسلم لا سبق إلّا في خفّ حافر ونعل، ورخصوا المسابقة في الرّمي أيضا، أما ما جاء في ضررها المادي فقد أجمعت الأطباء على أن مدمن الخمر يكون كثير النّسل وأولاده عقيمين أو لا تعيش لهم ذرية وما ضرّ تناوله طبا حرم تعاطيه شرعا، ولهذا حرمته أميريكا وتركيا برهة من الزمن ثم رجعتا إليه لما يدرّ عليهم من حطام الدّنيا، وأهل الدنيا لا يتركونها من أجل اللّه، قاتلهم اللّه وإنها ستتركهم يوما ما حتما، وإذ ذاك يندمون ولات حين مندم.
والمراد بالخمر هو ما يستخلص من عصير العنب وغيره نيئا قاذفا بالزبد وهي التي يسمونها الآن (انبيت) وهو ما لم تمسه النّار أصلا فهذا هو الذي قليله وكثيره حرام ويكفر مستحله.
أما المطبوخ من عصير العنب والرّطب والتمر والزبيب وغيرها كالعرق من جميع المسكرات الحديثة فهي حرام أيضا على القطع، إلا أنه لا يكفر مستحلها بل يفسق ويجري عليه الحد الشرعي، وإنها إنما تفارق الخمرة المنصوص عليها في القرآن من تكفير مستحلها فقط وتشاركها في بقية الأحكام، ويحرم بيعها بسائر أنواعها وجميع أجناسها، كما يحرم تعاطيها لأنها من الأشياء النّجسة التي يحرم تناولها كالخنزير.
راجع الآية الثالثة المارة من هذه السّورة.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال بلغ عمر بن الخطاب أن فلانا باع خمرا فقال قاتل اللّه فلانا ألم يعلم أن رسول اللّه قال لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشّحوم فحملوها فباعوها.
ورويا عن عائشة قالت خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال حرمت التجارة في الخمر.
وروي عن ابن عمر أن عمر رضي اللّه عنهما قال على المنبر منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة العنب والتمر والعسل والحنطة والشّعير والخمر ما خامر العقل كرر ثلاثا، ووردت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه.
يحدد الكلالة وأبواب من أبواب الرّبا أخرجه البخاري ومسلم راجع الآية 16 من سورة النّساء المارة والآية 235 من سورة البقرة أيضا واعلم أن الخمر يختلف تأثيرها باختلاف كمية الغول الذي فيها، وهذه الكلمة استعملها الأجانب بلفظ (آلكول) ثم عربها العرب بلفظ (الكحول) ولم يرجعوا إلى أصلها المذكور في القرآن العظيم وهو (الغول) وإذ كان حرف الغين لا يوجد باللغة الأجنبية، فقد قلبوها كافا، ونحن بدل من أن نقلب هذه الكاف غنيا ونعيدها لأصلها قلبناها حاء فصارت الكحول، وحتى الآن ينطقون بها.
وإنما سماه اللّه تعالى {غولا} في قوله جل قوله: {لا فِيها غَوْلٌ} الآية 47 من الصّافات ج 2 لأنه يذهب العقل، أي ليس فيها ما يذهب العقل ويغتاله كخمرة الدّنيا، راجع تفسير الآية 68 من الصّافات أيضا تجد الفرق بين خمر الدّنيا وخمرة الآخرة التي يقول فيها ابن الفارض:
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ** ترى الدّهر عبدا طائعا ولك الحكم

وقال:
على نفسه فليبك من ضاع عمره ** وليس له فيها نصيب ولا سهم

واعلم أنه كلما ازدادت كمية الغول فيها ازداد ضررها وعظم شرها، وقد يتعرض شارب الخمر أحيانا إلى القيء والصّداع المؤلم ويصحبه التهاب معدوي حادّ وما قيل أن قليل الخمر يزيد في قوة التفكير لا صحة له، بل تقلل الذكاء وتضعف القوة المفكرة لأنه ينافض الواقع، وذلك أن من يهاب الإقدام على أمر أو لا تواتيه شجاعته على عمل في حالة الصّحو يقدم عليه في حالة السّكر، وهذا الإقدام في الظاهر يكون لعدم إدراكه عاقبة الأمر، فهو يفعله عن قلة عقل لا عن عقل، ومقدرته حالة السّكر دون مقدرته حالة الصّحو وقوته كذلك، ألا ترى السّكران تلعب به الجهال وبمجرد دفعة بسيطة يقع على الأرض بخلاف ما لو كان صاحيا، وذلك لأنه ينقص من قوة الاحتمال الجسماني كما ينقص من قوة الإدراك العقلي، ومما هو مشاهد ان متناول الخمرة يكون قليل النّشاط حاملا لأن قوة الجسم على مقاومة التغيرات الجوية ومقدرته على ضبط درجة حرارته تضعف من تأثير الخمر، فكثيرا ما أودت ضربة الشّمس بحياة كثير من مدمني الخمر.